العظمة أمر وراء العلم والشعر ، والإمارة والوزارة ، والثروة والجاه ، فالعلماء والشعراء والنبلاء كثيرون ، والعظماء منهم قليلون ، وإنما هى قوة روحية موهوبة غير مكتسبة تملأ نفس صاحبها شعورا بأنه رجل غريب فى نفسه ومِزاج عقله ونزعات أفكاره وأساليب تفكيره غير مطبوع على غِرار الرجال ، ولا مقدود على مثالهم ، ولا داخل فى كلية من كلياتهم العامة ، فإذا نزلت نفسُه من نفسه هذه المنزلة أصبح لا ينظر إلى شىء من الأشياء بعين غير عينه ، ولا يسمع بأذن غير أذنه ، ولا يمشى فى طريق غير الطريق التى مهدها بيده لنفسه ، ولا يجعل لعقل من العقول مهما عظم شأنه وشأنُ صاحبه سلطانا عليه فى رأى أو فكر أو مشايعة لمذهب أو مناصبةٍ لطريقةٍ ، بل يرى لشدة ثقته بنفسه ، وعلمه بضعف ثقة الناس بنفوسهم أن حقا على الناس جميعا أن يستقديوا له ، وينزلوا على حكمه ويترسموا مواقع أقدامه فى مذاهبه ومراميه فترى جميع أعماله وآثاره غريبة نادرة بين آثار الناس وأعمالهم تبهر العيون ، وتدهش الأنظار ، وتملأ القلوب هيبة وروعة ..
ليس معنى الوجود فى الحياة أن يتخذ المرء لنفسه نفقا يتصل أوله بباب مهده وآخره بباب لحده ثم ينزلق فيه انزلاقا من حيث لا تراه عين ولا تسمع دبيبه أذن حتى يبلغ نهايته ، كما تفعل الهوام والحشرات والزاحفات على بطونها من بنات الأرض ، وإنما الوجود قرع الأسماع ، واجتذاب الأنظار ، وتحريك أوتار القلوب ، واستثارة الألسنة الصامتة وتحريك الأقلام الراقدة ، وتأريث نار الحب فى نفوس الأخيار ، وحمرة البغض فى نفوس الأشرار ، فعظماء الرجال أطول الناس أعمارا وإن قصرت حياتهم ، وأعظمهم حظا فى الوجود وإن قلت على ظهر الأرض أيامهم .
كن الناطق الذى تحمل الريح صوته إلى مشارق الأرض ومغاربها ، ولا تكن الريح التى تختلف إلى آذان الناس بأصوات الناطقين من حيث لا يأبهون لها ، ولا يعرفون لها يدها ، كن النبتة النضرة التى تعتلج ذراتُ الأرض فى سبيل نضرتها ونمائها ، ولا تكن الذرة التى تطؤها الأقدام ، وتدوسها الحوافر والأخفاف .
كن زعيم الناس إن استطعت ، فإن عجزت فكن زعيم نفسك ..
المنفلوطى : النظرات - الجزء الثالث