لن نستطيع أن نفصل الكتابة من القراءة ، ولا القراءة من الكتابة ؛ فكما تخرج هذه من رحم تلك ، تظل من دواعيها ؛ ومن ثم بدا لي السعي إلى مهارة الكتابة ، رُقيًّا في مَقامات فِقْهِ الْقِراءَةِ والْكِتابَةِ جميعًا معًا ، من مقام اللّماذا ، إلى مقام الْماذا ، ثم مقام الْمتى ، ثم مقام الكَيْف .
إنه ينبغي أولا أن تستبين للطالب دواعٍ إلى القراءة والكتابة ، أصيلةٌ قويةٌ باقيةٌ ، من مثل الاستفادة المعنوية ( الثَّقافة ، والرّاحة ، والمُتعة ) ، والمادية ( القُوَّة ، والقُدْرة ، والفَضْل ) ، والإفادة المعنوية ( التَّثْقيف ، والإراحَة ، والإمْتاع ) ، والمادية ( التَّقْوِيَة ، والإقْدار ، والتَّفْضيل ) – تُعَلِّقُهُ دائما بهما ، وإلا زَهِدَ بعد حينٍ فيهما .
ثم ينبغي ثانيا أن تستبين له مَظانُّ القراءة والكتابة التي تتيح له تلك الاستفادات والإفادات المعنويات والماديات ، وإلا بدت له تلك الدواعي أوهامًا لا حقيقة لها .
ثم ينبغي ثالثا أن يستبين له نظامٌ يُقَدِّرُ به أَوْرادَ يومِهِ وغَدِهِ من القراءة والكتابة ؛ فلا يُقَدِّم آخرًا ، ولا يُؤَخِّرُ أوّلًا ، ولا يُكَبِّرُ صَغيرًا ، ولا يُصَغِّرُ كبيرًا ، منطلقا من أنه لما كانتِ الكتابةُ من ثمار القراءة ، وجب أن تَسبقَها هذه دون أن تُلْهِيَ عنها ؛ إذِ الكتابةُ من دَواعيها ، ولما كان الإنسان مسؤولًا عن نفسه ، قبل سؤاله عن غيره ، كانت استفادتُه وما يَستفيد منه ، مُقَدَّمَيْن على إفادته وما يُفيد به ، ولما كان المَعنويُّ جَذْرَ عمل الإنسان ، والماديُّ فَرْعَه ، كانت الاستفادةُ والإفادة وما يَستفيد منه وما يُفيد به ، المعنوياتُ – مقدَّماتٍ على الاستفادةِ والإفادة وما يَستفيد منه وما يُفيد به ، الماديّاتِ ، ولما كان تفكيرُ القارئ أصعبَ حُضورًا من تفكير الكاتب لانكشافه للخواطرِ ، وتفكيرُ الكاتب أَقَلَّ جَهْدًا من تفكير القارئ لسُهولة حُضوره ، وكان زَمانُ الإنسانِ المُسْلِمِ مُقَسَّمًا بالصَّلَوات المَفْروضة ، وأقسامُه مختلفةَ الحُظوظِ مِنْ نَشاطِهِ - وَجَبَ أن يكون ما بَعْدَ الفَجْر للقراءة ِ ، وما بَعْدَ الظُّهْرِ للكتابة ، وما بَعْدَ العَصْرِ للقراءة ، وما بَعْدَ المَغْربِ للكتابة ، وما بَعْدَ العِشاءِ للكتابة ثم للقراءة ، إلا أنْ تَشِذَّ حالٌ عن ذلك التقسيم الطبيعي ، ولما كان النومُ من سُبُل الاستيعاب ، وَجَبَ أنْ يَعْقُبَهما دونَ فاصل – وإلا قَلَّتْ لديه جَدوى عنائه .
ثم ينبغي له آخرا أن يأخذ القراءة والكتابة بشروطهما ، من مثل لزوم آدابهما { الهَيئة : القُعود والرّاحة ، والسُّكون : الهُدوء والصَّمت ، والإقبال : التَّأمُّل والتَّفكير } ، ورِعاية أُصولهما { المُكَوّنِات اللُّغويّة ( المقال ) ودَلالتِها ، والمُكَوِّنات غير اللُّغويّة ( المقام ) ودَلالتِها } ، وتَحَرّي أنواعهما { الإيجاز : الاخْتِصار والاقْتِصار ، والإطْناب : الاسْتيفاء والاسْتِقْصاء } ، واستعمال أَدَواتهما { البِناء : التَّقسيم والتَّرتيب ، والإيضاح : التَّعليق والتَّنبيه ، والإِلْحاح : التَّهْذيب والإِعادة } – وإلا استعصى عليه فِقْههما ؛ فاستحالت أبدًا المهارة بهما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق