السبت، 20 ديسمبر 2008

الربيع الأزرق


ما أجمل الأرض على حاشية الأزرقين البحرَ والسماء ؛ يكاد الجالس هنا يظن نفسه مرسوما فى صورة إلهية

***

فى جمال النفس يكون كل شىء جميلا ، إذ تلقى النفس عليه من ألوانها ، فتنقلب الدار الصغيرة قصرا لأنها فى سعة النفس لا فى مساحتها هى ، وتعرف لنور النهار عذوبة كعذوبة الماء على الظمأ ، ويظهر الليل كأنه معرض جواهر أقيم للحور العين فى السماوات ، ويبدو الفجر بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنة سابحة فى الهواء

فى جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة ؛ وى ! كأن الله أمر العالم ألا يعبس لقلب مبتسم

***

وا أسفاه ! هذه هى الحقيقة : إن دقة الفهم للحياة تفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب ، وإن العقل الصغير فى فهمه للحب والحياة ، هو العقل الكامل فى التذاذه بهما . وا أسفاه ! إنها الحقيقة !

***

من لم يرزق الفكر العاشقَ لم ير أشياء الطبيعة إلا فى أسمائها وشياتها ، دون حقائقها ومعانيها ، كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلهن سواء ، فإذا عشق رأى فيهن غير من عرف ، وأصبحن عنده أدلة على صفات الجمال التى فى قلبه


الرافعى : من وحى القلم ( وهى مقطوعات من مقالته التى كتبها فى المصيف : فى الربيع الأزرق خواطر مرسلة )

هناك تعليقان (2):

أحمد أبو خليل يقول...

وى ! كأننى كنت أشعر بكل لفظة من كلماتك يا رافعى ، وتنتاب أناملى رعشة وهى تلتقط هذه الصورة فى مصيفى بالعريش العام الماضى ...

رفعت الباشا يقول...

واقرأ أيضا إن شئتَ للرافعي رحمه الله هذا النص من كتابه حديث القمر الفصل الخامس
" فمن لم يدرس طبائع القلوب المتوهجة في نفس أهلها لا يعلم قلبه شيئا وإن كان رأسه مكتبة من العلوم . ومتى كان القلب جاهلا بقي الإنسان بعلومه كأنه قطعة في أداة هذه الطبيعة : كلُّ شأنها أن تحرّك بعضها وتتحرك ببعضها ، وفقدَ السلطان الحقيقي على الطبيعة نفسها ؛ لأن هذا السلطان لا يكون بالقوة التي هي غاية العلم ؛ إذ الطبيعة على كل حالٍ أقوى ، ولا يكون بالتسخير الذي هو غاية العمل ؛ فالطبيعة حرة لا تذل ، أبية لا تخضع ، وإن ظهرتْ عليها الذلة والمسكنة فذلك في نظر الإنسان واعتداده ليس غير .
إن الهواء لا يعجب من مُنطاد يعلو فيه ـ وإن كان غاية ما انتهى إليه اختراع الإنسان ( صدر هذا الكتاب سنة 1918 تقريبا ) إلا إذا عجب من كل ذبابة تطير . والبحر تتمخّر فيه الجواري المنشآت كالأعلام وتثبتُ عليه كالمدن وتمثّل فيه الأرض المائية التي خلقت في أذهان الإنجليز ( قال في الهامش " هؤلاء الإنجليز كأنهم أسماك الأرض ...وعندهم أن الإنجليزي لا يقبل الجدال في شيئين :الأسطول وشكسبير. ")، وإن صُغرى أسماكه لتكون أصلب منها ( يقصد هذه السفينة العظيمة ) على مجالدته ، وأقوى على مجاهدته ، فما للإنسان يلوك بين ماضغيه هذه الألفاظ التي يحاول أن يشبع بها معدة الخلود في وهمه ولا تراها الطبيعة إلا من غذاء النسيان ؟.
السلطان الحقيقي على الطبيعة سلطان الروح ؛ لأنها من الله . وهذه الطبيعة أداة في يد الله . فليجعل الإنسان شفتيه مخزنا لغويا مملوءًا بألفاظ العلوم ؛ فإن الطبيعة لا تبالي بمدلول الحروف مهما حملها على ذلك باصطلاحه ؛ ولكن ليجعل في قلبه علم الخير وإحالة الشر إلى الخير ؛ فإن الطبيعة حينئذ لا يسعها إلا أن تخضع بإحساسها خضوع الإجلال لأستاذ تلامذتها ، وترفع إلى الله على يده تعازي المساكين كأنه الأمين على آمال القلوب ، وتجعل الطبيعة هذه اليد نفسها كأنها شكر منها لله تعالى إذ أنجبتْ رجلا من رجالها في الأرض.
كم من عالم لا ترى الطبيعة اندفاع الكلام العلمي من شفتيه إلا كما يرى أحدنا اندفاع أسراب الخفافيش العمياء من جانبي المغارة وقد أبرزها على إشراق الضحى صبٌ من الصبيان ! وسيكون أكثر هذه العلوم ـ في معاملة الله ـ كالثروة التي يمتلكها الفقير في حلم من أحلامه ( الذهبية ) فيستعبد بها من شاء من مخلوقات النوم ...ويمتلك ما شاء الله من زخارف الليل المصنوعة من أبخرة الدماغ ، حتى إذا جلا النورُ عينيه لم يستطع أن ينال بكل ذلك الغنى العريض كسرةً من الخبز يتبلغ بها وقد بات طاويا ؛ فإن الله لا يعامل إلا بالنية ولا يُثبت في سجل الحسنات إلا الأرقام القلبية ؛ فدع هذه المدنية وهذه العلوم تنزع ما في قلوب أهل الخير من الخير ؛ فإنك لن ترى على الأرض يومئذ من الناس إلا حيوانات عالمة تأكل حيوانات جاهلة ؛ وهل تحسب قوة الحيوان المفترس بإزاء ضعف ما يفترسه إلا علما أو معنَى كالعلم بإزاء جهل أو معنى كالجهل ؟.

ويومئذ لا تبصر الطبيعة بعينها الإلهية شيئا من الفرق بين أنفُس الوحوش وأنيابها ومخالبها ، وبين كتب العلماء وأيديهم وأقلامهم ؛ تلك جميعها إنما تكون في الجهتين أدوات صمّاء لحرفة حيوانية هي حرفة العيش ."
وقال معرفا بمراده بلفظ الطبيعة في أول كتابه حديث القمر
"حيثما أطلقنا الطبيعة فيما نكتب ؛ فإنما نريد بها هذا النظام الإلهي الذي طُبعتْ عليه الكائنات ، أو الكائنات نفسها على هذا النظام "